مواقع الظلال: عمل حديث لجنان العاني
28 آب، 2012- 10 شباط، 2013
قاعة آرثر إم. ساكلر- معهد سميثسونيان
تعرض قاعة آرثر إم. ساكلر في العاصمة واشنطن ثلاثة عروض فيديوية لأعمال حديثة للفنانة عراقية المولد، جنان العاني. يقدم المعرض الفردي الثاني في سميثسونيان لجنان العاني، المقيمة في لندن، (أقيم المعرض الأول في 1999) والمعنون “مواقع الظلال” لزواره لمحة في زاوية جديدة من عمل جنان المبني على الصورة، وهي زاوية طورتها في عمل بحثي عنوانه "جماليات الغياب: أرض بلا بشر."
عرفت جنان في الولايات المتحدة من خلال صورها المبكرة، التي نفذتها بجمالية عالية غيرت بها المعالم السابقة للفن الاستشراقي. تصف جنان في صورها الأسس الاستعمارية لتقاليد القرن التاسع عشر في أوربا، وتعد لوحتها المزدوج المعنون "بلا عنوان (مشروع الحجاب)" في 1996 أكثر أعمالها إثارة للانتباه من تلك الفترة حيث تتناول كيف أصبح جسد الأنثى (ولازال) ما وصفه فران لويد Fran Lioyd بأنه " واحد من المواقع التي دارت عليها معارك غزو الشرق"، ( فن النساء العربيات الحديث: حوارات حول الحاضر، 1999). إن اهتمام الفنانة بهذا النوع من التصوير التاريخي وصوره المشحونة كان مهماً في معرض حجاب الجماعي عام 2003، وفي المطبوعة التي تزامنت معه وعنوانها التحجب، عرض وفن معاصر (دار نشر جامعة MIT)، وهما مشروعان يعدان علامتين مميزتين فحصتا بدقة الفكرة المترسخة المعاصرة حول الممارسات المرتبطة بالحجاب، إضافة إلى الارتباط التاريخي بين هذا الزي والمضامين السياسية، والثقافية، والاجتماعية. نظمت جنان معرض حجاب بالتعاون مع الفنانة فرنسية المولد، والمقيمة في لندن، زينب سديرة التي أنشأت المعرض بالاشتراك مع المشرفين ديفيد بيلي وجيلان تاودرس.
شهد عام 2003 إنطلاقة في عمل جنان العاني، والذي نشأ في جزء منه من إقامتها في مؤسسة معمل في القدس، حيث تجمدت جنان فنياً بسبب الغطرسة السياسية للاحتلال الاسرائيلي. ورغم أنها لم تتمكن من انجاز الجانب الابداعي في إقامتها هناك، إلا أن هذه التجربة في فلسطين أنشأت عملاً بحثياً كان قد وضع قيد التنفيذ بالفعل وهي تفكر في التناقضات في ما تشاهده والتي تشكل "المشهد الحقيقي والمُتخيَّل" في الشرق الأوسط.
["منظر جوي ٣" صورة من "مواقع الظلال ٢. الصورة من الفنانة]
لقد كان كل من "الدليل والقطيع" (2008)، و"مواقع الظلال II" (2011)، الفيديوات الرئيسة التي تشكل المعرض المقام في قاعة ساكلر، وقد سبقهما سلسلة من الصور من بدايات القرن العشرين من مواقع في إيران والعراق، التقطها عالم الآثار الألماني إرنست هيرزفيلد Ernst Herzfeld والتي انتقتها جنان العاني من أرشيفات المؤسسة. ترينا نماذج هيرزفيلد مناظر طبيعية لأماكن غير مأهولة بالسكان ومشاهد صحراوية تظهر فيها من بعيد بقايا حضارات مضت. ترينا جنان مفاهيم مكانية في عملها الخاص كتفاعل مع هذا النمط من صنع الصورة والذي يرتبط ايضاً بالأسلوب التقني المباشر المعتمد على نقطة مشاهدة أكثر تأثيراً وشمولاً.
“لقد كان للدور البارز الذي لعبته تكنولوجيا التصوير في حرب عاصفة الصحراء عام 1991 نقطة تحول في تاريخ الحروب، حيث غير الطريقة التي سينظر الناس بها للحروب مستقبلاً. ففي غضون ساعات من غزو الكويت، حشدت قوى الاعلام الغربي قواها وركزت أبصارها على المنطقة. لقد كف تصوير السكان، والتقاليد، وبشكل رئيس المناظر الطبيعية في الشرق الأوسط، عن أن صورة القرن التاسع عشر النمطية عن العرب والصحراء لا زالت راسخة في الوعي الغربي. لقد أُظهر مسرح الحرب على أنه صحراء، أي أنه مساحة فارغة بلا تاريخ، وبلا سكان. إنه قطعة قماش بيضاء. ( العاني، التحجب، العرض والفن الحديث).”
في طبعة بانورامية خلابة لطاق كسرى، وهو نصب يعود للفترة الساسانية، أضفى هيرزوغ ظله الشخصي على خلفية التركيب، ثم قام بإزالتها لاحقاً في صورة منقحة. في عرض ذي شاشتين تم فيه إدخال شاشة فيديو مربعة في شاشة عرض حائطية، يدعو "الراعي والقطيع" المشاهد إلى أن يعيد، بلا نية مسبقة، إنتاج هذا الظل المنعكس في فيلم عن رجل عربي يتلاشى ظله على طريق طويل مهجور. لقد صُنع الفيديو القصير نسبياً الذي يظهر الخراف وهي تسير أمام طريق سريع مزدحم وصاخب بشكب يجبر المشاهد على التقرب من المشهد، والدخول في العمل حتى يتمكن من تفحص عناصره المتحركة. يستحضر هذا الحث الفكري صورة المغادر أو المهجّر، في نفس الوقت الذي يبرز فيه صوراً عابرة و أساليباً للاستغلال غير المتقن الموجودة في قرون من تصوير (أو تخيل) العالم العربي.
يسلك معرض "مواقع الظلال II" مقاربة مختلفة ليبني روابط تعكس إهتمام الفنان بالتصوير الجوي البعيد وتكتيكاته المستعملة في الحروب المعاصرة. تظهر شاشة معلفة كبيرة عرضاً متلاحقاً لصور جوية بلا ملامح أُخذت من ارتفاعات متعددة. حين تتحرك الكاميرا لتأخذ لقطات قريبة للدلائل القليلة المتوفرة للحركة البشرية، تتلاحق الصروح في تركيبات مختلفة مؤشرة على مرور الزمن عكسياً، أو على أحافير بصرية تتبدى أمام عدسة الفنان. تتلاشى قاعدة عسكرية حين يبدأ شكل البيت بالظهور والذي يبدأ بالذوبان حين تبدأ الآثار القديمة بالظهور. تستمر المعالم البصرية بالظهور فيما تتبدى مواقع جديدة أمامنا، وبضمنها مراكز للدواب وحقول زراعية تملأ الأبصار. تلنقط الكاميرا، من ارتفاع معين، المنظر الطبيعي الذي يكاد يعتبر مجرداً، متنقلة بين الظلال والأضواء الرمادية والبيضاء القاسية والمتماشية دوماً مع الحياة. أحد العوامل الرئيسة هي الضجيج العالي لمحرك الطائرة والذي يكاد يشبه صوت الطائرة بدون طيار. يستعمل مشهد فيديو آخر في "المنقبين" (2010)، والمعروض بجانب " مواقع الظلال II"، وهذه المرة بصيغة شاشة مصغرة مغموسة جزئياً في منصة يمكن أن ترى فقط عن طريق الوقوف على هيكلها الضيق. يجري النمل من وإلى الثقب الضيق في الأرض، وتبدو هذه الحركة المنظمة المتكررة وكأنها تمتلك خاصية أدائية لا منتهية على طول مسار الفيديو.
إن الأشكال الروتينية للإلغاء تبدو وكأنها ذات أهمية خاصة للفنان- الفصل والتقسيم للروايات، وللأشخاص عن طريق العين الفاحصة لتراث مسيطر وهي مدفوعة إلى الأطراف حيث يمكن أن يتم بأناقة إخفاء أو إبعاد مجتمعاتها وعلاقاتها ببقية العالم. بعيدا عن التركيز الإقليمي، يمكن أن نفهم الكثير من إنتاجها الفني كجزء من تيار عالمي معاصر أوسع يدقق عن قرب الطرق التي يمكن أن تتلاعب بالعلاقات بين الفاعل/المفعول لإخضاع الجسد كاشفاً الآليات التي بموجبها يتم تغيير التراث البصري للسلطة. وبالتالي، فإنه من المناسب أن نقول إن المفهوم الرئيس ل" جماليات الغياب: أرض بدون بشر" هو كيفية التعبير عن الكارثي، أو لنقل كيف يمكن لآثار الكارثي أن تكون مرئية في صور هدفها أن تجعل مناسبات كهذه غير مرئية، إن المعرفة بالمختفي تذكرنا بأقصى حالات الغياب- كما تدار السلطة باهتياج وهي تتقلب في دناءة تنتج الفظاعة.
يقع المعرض، وكأن هذا قد تم بتخطيط، في عدة معارض تحت الأرض أسفل المركز التجاري الوطن (وهي أرض تذكارية منظمة حول رمز واضح للقوة الامبراطورية الدائمة- رمز الذكورة الأبيض- والقطعة الرخامية في المركز المعروفة بنصب واشنطن). إن مواقع الظلال يبدو شيئاً مهدماً، إذا أخذنا بنظر الاعتبار قرب السميثونيان من مراكز القيادة الأميركية. تعطل جنان العاني هذا التراث الرومانسي عن طريق التنويه بالكوارث التي أطلقها من عقالها.
[نشرت المقالة بالإنكليزية على "جدلية" وترجمها إلى العربية علي أديب]